سورة إبراهيم - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (إبراهيم)


        


المعنى: واذكر إذ قال إبراهيم، و{البلد}: مكة، و{آمناً} معناه فيه أمن، فوصفه بالأمن تجوزاً- كما قال: {في يوم عاصف} [إبراهيم: 18]، وكما قال الشاعر:
وما ليل المطي بنائم ***
{واجنبني} معناه: وامنعني، يقال: جنبه كذا وجنبه وأجنبه: إذا منعه من الأمر وحماه منه.
وقرأ الجحدري والثقفي {وأجنِبني} بقطع الألف وكسر النون.
وأراد إبراهيم بني صلبه، وكذلك أجيبت دعوته فيهم، وأما باقي نسله فعبدوا الأصنام، وهذا الدعاء من الخليل عليه السلام يقتضي إفراط خوفه على نفسه ومن حصل في رتبته، فكيف يخاف أن يعبد صنماً؟! لكن هذه الآية ينبغي أن يقتدى بها في الخوف وطلب الخاتمة.
و {الأصنام} هي المنحوتة على خلقة البشر، وما كان منحوتاً على غير خلقة البشر فهي أوثان، قاله الطبري عن مجاهد.
ونسب إلى الأصنام أنها أضلت كثيراً من الناس- تجوز- إذ كانت عرضة الإضلال، والأسباب المنصوبة للغيّ، وعليها تنشأ الأغيار، وحقيقة الإضلال إنما هي لمخترعه، وقيل: أراد الأصنام هنا الدنانير والدراهم.
وقوله: {ومن عصاني} ظاهره بالكفر، بمعادلة قوله: {فمن تبعني فإنه مني}، وإذا كان ذلك كذلك فقوله: {فإنك غفور رحيم} معناه: بتوبتك على الكفرة حتى يؤمنوا، لا أنه أراد أن الله يغفر لكافر، لكنه حمله على هذه العبارة ما كان يأخذ نفسه به من القول الجميل والنطق الحسن وجميل الأدب- صلى الله عليه وسلم- قال قتادة: اسمعوا قول الخليل صلى الله عليه وسلم، والله ما كانوا طعانين ولا لعانين، وكذلك قال نبي الله عيسى {وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} [المائدة: 118] وأسند الطبري عن عبد الله بن عمر حديثاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: تلا هاتين الآيتين ثم دعا لأمته، فبشر فيهم وكان إبراهيم التيمي يقول: من يأمن على نفسه بعد خوف إبراهيم الخليل على نفسه من عبادة الأصنام؟.
وقوله: {ومن ذريتي} يريد: إسماعيل عليه السلام، وذلك أن سارة لما غارت بهاجر- بعد أن ولدت إسماعيل- تعذب إبراهيم عليه السلام، بهما، فروي أنه ركب البراق وهو وهاجر والطفل- فجاء في يوم واحد من الشام إلى بطن مكة، فنزل وترك ابنه وأمته هنالك، وركب منصرفاً من يومه ذلك، وكان هذا كله بوحي من الله تعالى فلما ولَّى دعا بمضمن هذه الآية، وأما كيفية بقاء هاجر وما صنعت وسائر خبر إسماعيل، ففي كتاب البخاري والسير وغيره.
و {من} في قوله: {ومن ذريتي} للتبعيض، لأن إسحاق كان بالشام، والوادي: ما بين الجبلين، وليس من شروطه أن يكون فيه ماء.
وهذه الآية تقتضي أن إبراهيم عليه السلام قد كان علم من الله تعالى أنه لا يضيع هاجر وابنها في ذلك الوادي، وأنه يرزقهما الماء، وإنما نظر النظر البعيد للعاقبة فقال: {غير ذي زرع}، ولو لم يعلم ذلك من الله لقال: غير ذي ماء على ما كانت عليه حال الوادي عند ذلك.
وقوله: {عند بيتك المحرم} إما أن يكون البيت قد كان قديماً- على ما روي قبل الطوفان، وكان علمه عند إبراهيم- وإما أن يكون قالها لما كان قد أعلمه الله تعالى أنه سيبني هنالك بيتاً لله تعالى، فيكون محرماً. ومعنى {المحرم} على الجبابرة وأن تنتهك حرمته ويستخف بحقه- قاله قتادة وغيره.
وجمعه الضمير في قوله: {ليقيموا} يدل على أن الله قد أعلمه أن ذلك الطفل سيعقب هنالك ويكون له نسل. واللام في قوله: {ليقيموا} هي لام كي هذا هو الظاهر فيها- على أنها متعلقة ب {أسكنت}، والنداء اعتراض، ويصح أن تكون لام أمر، كأن رغب إلى الله أن يوفقهم بإقامة الصلاة، ثم ساق عبارة ملزمة لهم إقامة الصلاة، وفي اللفظ على هذا التأويل بعض تجوز يربطه المعنى ويصلحه.
و {أفئدة}: القلوب، جمع فؤاد. سمي بذلك لإنفاده، مأخوذ من فأد ومنه المفتاد، وهو مستوقد النار حيث يشوى اللحم.
وقرأ ابن عامر بخلاف: {فاجعل أفئدة} بياء بعد الهمزة.
وقوله: {من الناس} تبعيض، ومراده المؤمنون، قال مجاهد: لو قال إبراهيم: أفئدة الناس- لازدحمت على البيت فارس والروم. وقال سعيد بن جبير: لحجته اليهود والنصارى. و{تهوي} معناه: تسير بجد وقصد مستعجل، ومنه قول الشاعر [أبو كبير]: [الكامل]
وإذا رميت به الفجاج رأيته *** يهوي مخارمها هويَّ الأجدل
ومنه البيت المروي: [السريع]
تهوي إلى مكة تبغي الهدى *** ما مؤمنو الجن كأنجاسها
وقرأ مسلمة بن عبد الله: {تُهوي} بضم التاء، من أهوى، وهو الفعل المذكور معدى بالهمزة، وقرأ علي بن أبي طالب ومحمد بن علي ومجاهد {تَهوَى} بفتح التاء والواو. وتعدي هذا الفعل- وهو من الهوى- ب إلى، لما كان مقترناً بسير وقصد. وروي عن مسلم بن محمد الطائفي: أنه لما دعا عليه السلام بأن يرزق سكان مكة من الثمرات بعث الله جبريل فاقتلع بجناحه قطعة من أرض فلسطين- وقيل من الأردن- فجاء بها وطاف حول البيت بها سبعاً، ووضعها قريب مكة، فهي الطائف، وبهذه القصة سميت، وهي موضع ثقيف، وبها أشجار وثمرات وثم هي ركبة.


مقصد إبراهيم عليه السلام بقوله: {ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن} التنبيه على اختصاره في الدعاء، وتفويضه إلى ما علم الله من رغائبه وحرصه على هداية بنيه والرفق بهم وغير ذلك، ثم انصرف إلى الثناء على الله تعالى بأنه علام الغيوب، وإلى حمده على هباته، وهذه من الآيات المعلمة أن علم الله تعالى بالأشياء هو على التفصيل التام.
وروي في قوله: {على الكبر} أنه لما ولد له إسماعيل وهو ابن مائة وسبعة عشر عاماً، وروي أقل من هذا، و{إسماعيل} أسنّ من {إسحاق}، فيما روي، وبحسب ترتيب هذه الآية-وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: بشر إبراهيم وهو ابن مائة وسبعة عشر عاماً.
وقوله: {رب اجعلني مقيم الصلاة}، دعا إبراهيم عليه السلام في أمر كان مثابراً عليه متمسكاً به، ومتى دعا الإنسان في مثل هذا فإنما القصد إدامة الأمر واستمراره.
وقرأ طلحة والأعمش {دعاء ربنا} بغير ياء. وقرأ أبو عمرو وابن كثير {دعائي} بياء ساكنة في الوصل، وأثبتها بعضهم دون الوقف في الوصل. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي بغير ياء في وصل ولا وقف. وروى ورش عن نافع: إثبات الياء في الوصل، وقرأت فرقة {ولوالديّ} واختلف في تأويل ذلك، وقالت فرقة: كان هذا من إبراهيم قبل يأسه من إيمان أبيه وتبينه أنه عدو لله، فأراد أباه وأمه، لأنها كانت مؤمنة، وقيل: أراد آدم ونوحاً عليهما السلام. وقرأ سعيد بن جبير {ولوالدي} بإفراد الأب وحده، وهذا يدخله ما تقدم من التأويلات، وقرأ الزهري وإبراهيم النخعي {ولولديّ} على أنه دعاء لإسماعيل وإسحاق، وأنكرها عاصم الجحدري، وقال إن في مصحف أبيّ بن كعب {ولأبوي}، وقرأ يحيى بن يعمر {ولوُلْدي} بضم الواو وسكون اللام، والولد لغة في الولد، ومنه قول الشاعر- أنشده أبو علي وغيره: [الطويل]
فليت زياداً كان في بطن أمِّه *** وليت زياداً كان وُلْدَ حمار
ويحتمل أن يكون الولد جمع ولد كأسد في جمع أسد.
وقوله: {يوم يقوم الحساب} معناه يوم يقوم الناس للحساب، فأسند القيام للحساب إيجازاً، إذ المعنى مفهوم.
قال القاضي أبو محمد: ويتوجه أن يريد قيام الحساب نفسه، ويكون القيام بمعنى ظهوره وتلبس العباد بين يدي الله به، كما تقول: قامت السوق وقامت الصلاة، وقامت الحرب على ساق.


هذه الآية بجملتها فيها وعيد للظالمين، وتسلية للمظلومين، والخطاب بقوله: {تحسبن} لمحمد عليه السلام، والمراد بالنهي غيره ممن يليق به أن يحسب مثل هذا.
وقرأ طلحة بن مصرف {ولا تحسب الله غافلاً} بإسقاط النون، وكذلك {ولا تحسب الله مخلف وعده} [إبراهيم: 47] وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن والأعرج: {نؤخرهم} بنون العظمة. وقرأ الجمهور: {يؤخرهم} بالياء، أي الله تعالى.
و {تشخص} معناه: تحد النظر لفزع ولفرط ذلك بشخص المحتضر، والمهطع المسرع في مشيه- قاله ابن جبير وقتادة.
قال القاضي أبو محمد: وذلك بذلة واستكانة، كإسراع الأسير والخائف ونحوه- وهذا هو أرجح الأقوال- وقد توصف الإبل بالإهطاع على معنى الإسراع وقلما يكون إسراعها إلا مع خوف السوط ونحوه، فمن ذلك قول الشاعر: [الكامل]
بمهطع سرج كأن عنانه *** في رأس جذع من أوال مشذب
ومن ذلك قول عمران بن حطان: [البسيط]
إذا دعانا فأهطعنا لدعوته *** داع سميع فلونا وساقونا
ومنه قول ابن مفرغ: [الوافر]
بدجلة دارهم ولقد أراهم *** بدجلة مهطعين إلى السماع
ومن ذلك قول الآخر: [الطويل]
بمستهطع رسل كأن جديله *** بقيدوم رعد من صوام ممنع
وقال ابن عباس وأبو الضحى: الإهطاع شدة النظر من غير أن يطرف وقال ابن زيد المهطع: الذي لا يرفع رأسه. قال أبو عبيدة: وقد يكون الإهطاع الوجهين جميعاً الإسراع وإدامة النظر، والمقنع هو الذي يرفع رأسه قدماً بوجهه نحو الشيء، ومن ذلك قول الشاعر: [الشماخ] [الوافر]
يباكرن العضاة بمقنعات *** نواجذهن كالحدأ الوقيع
يصف الإبل بالإقناع عند رعيها أعالي الشجر.
وقال الحسن في تفسير هذه الآية: وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد. وذكر المبرد- فيما حكي عن مكي- أن الإقناع يوجد في كلام العرب بمعنى خفض الرأس من الذلة.
قال القاضي أبو محمد: والأول أشهر.
وقوله: {لا يرتد إليهم طرفهم} أي لا يطوفون من الحذر والجزع وشدة الحال، وقوله: {وأفئدتهم هواء} تشبيه محض، لأنها ليست بهواء حقيقة، وجهة التشبيه يحتمل أن تكون في فرغ الأفئدة من الخير والرجاء والطمع في الرحمة، فهي منخرقة مشبهة الهواء في تفرغه من الأشياء وانخراقه، ويحتمل أن يكون في اضطراب أفئدتهم وجيشانها في صدورهم وأنها تجيء وتذهب وتبلغ على ما روي- حناجرهم- فهي في ذلك كالهواء الذي هو أبداً في اضطراب.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هاتين الجهتين يشبه قلب الجبان وقلب الرجل المضطرب في أموره بالهواء، فمن ذلك قول الشاعر: [الطويل]
ولا تكن من أخدان كل يراعه *** هواء كسقب الناب جوفاً مكاسره
ومن ذلك قول حسان: [الوافر]
ألا أبلغ أبا سفيان عني *** فأنت مجوف نخب هواء
ومن ذلك قول زهير: [الوافر]
كأن الرحل منه فوق صعل *** من الظلمان جوجؤه هواء
فالمعنى: أنه في غاية الخفة في إجفاله.
وقوله تعالى: {وأنذر الناس} الآية، المراد ب {يوم} يوم القيامة ونصبه على أنه مفعول ب {أنذر} ولا يجوز أن يكون ظرفاً، لأن القيامة ليست بموطن إنذار، وقوله: {فيقول} رفع عطفاً على قوله: {يأتيهم} وقوله: {ولم تكونوا} إلى آخر الآية، معناه: يقال لهم، فحذف ذلك إيجازاً، إذ المعنى يدل عليه، وقوله: {ما لكم من زوال} هو المقسم عليه نقل المعنى، و{من زوال} معناه من الأرض بعد الموت. أي لا بعث من القبور، وهذه الآية ناظرة إلى ما حكى عنهم في قوله: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت} [النحل: 38].

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6